فصل من حياتي

 

الخميس الـ2:23 صباحا

أرقٌّ سحب النوم من جفني فجأة .. فتركني أسيرة تأمل سقف الغرفة الأبيض

وهواء جهاز التكييف يصبغ أظافري بلون بنفسجي فاتح

كل الأشياء صامتة ,والظلام يُحيط بالغرفة ذات الزوايا الثمانية

أمسك هاتفي .. وأُطيلُّ الضغط عليه لأمنحه حياة تعودتُ منحه إياها بعد الفجر إلا أنني اليوم بحاجة لمعرفة الساعة.. التي اشتهيت أن أرى عقربها الصغير يُشيرُّ إلى الخامسة ,ولكن الـ1 والنصف أمسكت به غفلة .. وكأن الأرق رشّاها لـ تتوقف.

تسكنني منذ أيام أفكار غريبة, وتُسيطر بسملة على تفكيري. قلبها المملوء بالحب .. مرض إيمان الذي يؤرقها .. الإحساس بالغربة العميقة .. ومستقبلها المتأرجح بين صعود ونزول ..

بسملة الكبيرة / ذات القلب البسيط تُحب العطاء بشكل يُغضبني أحيانا.. الشفافة في زمن المُلطخين بالعتمة تُجبرني على الوقوف أمامها بصمتٍ يحترمُ حديثها الصادق.. هي ذاتها التي ترفضُّ الظروف جمعنا لأمنحها دفئي ,وتمنحني حبها الصادق ..

ما كنتُ أدرك أن حروفي ستُشيد بين قلبيْنا جسرا.. أو أن ساعات الحديث الطويلة عن غربتها المريرة, وقلبها الذي يُتقن الإسراع في النبضات.. فيأسرها في سرير أبيض ألُّفها وألفته منذ زمن.. ستكون محطة نقف عندها كي نلتقي.. وحدها هي التي أخلع أمامها كبريائي, وأخلفُّ جِدَّتي فأكون معها أنا بكل فصولها..

أتأملُّني أحيانا كثيرة, وتثورُّ في أعماقي التساؤلات عن حالي بعد أعوام خمسة, عن ملامح مستقبلي المختبئ خلف ظروف الأيام, عن السفر الذي أحلم به, عن قلمي وأمنياتي وعالمي الصغير. والـ20 دقيقة التي أقضِّيها في حافلة الجامعة ذات ألوان علم الوطن أرسم فيها تفاصيل أحلامي المُشتهاة, أو أقضُّم كتاب تدفعني حروفه إلى نسيان كل من حولي.,, زحمة دوار المطار , السيارات المُستعجلة ,العابرين الطريق الراكضين ,حافلات السياح ,ودورية المرور ,ولون حقيبة مَُن تجلس بجانبي.أمسيت ولضغط الدراسة – يدا في ذلك -أنسى حشوُّ حقيبتي برواية تنسُجّ من الدقائق وشاحا لفراغي البارد ,فأشغل نفسي حينها في اختيار سيارة أقودُّها ,وأخرى أرفضها بصمت يُجبرني على الابتسام كثيرا . حافلتنا ذات المقاعد الرصاصية شهدت سقوط عَبراتي في عامي الجامعي الأول, وتأملت ملامحي بعد يوم دراسي طويل أكثر مما يجب, وشاركتني وسمية أحاديث لا تعني لغيرنا شيئا وضحكات ظنها البعض بكاءً.

اجتاحتني صباح الأربعاء حمى مُسلَّحة أجبرتني على النهوض من سريري لإخراج جورب قطني يدفئ قدمي الباردة, وقميصا يقتل الوحشة والبرد فيني ورعشة قوية دفعتني للتكوُّم ,و محاولة النومِّ رغم العجز عن التنفس ,وآهات ساخنة تغادرني ببطءٍ يُصيرني طفلة تشتهي حضن أمها وكمَّادة تُعِيدُّ لروحها الغارقة نفسا يُحييها. نمتُّ ذاك الصباح ,ولم أنمْ وكأنني استيقظ لأطمئن علي ,وأُحكِّم إغلاق باب الأسرار المخبأة.فأنا أخاف من الحُمَّى على نحو أراه غريبا أحيانا؛ لأنني أخشى أن يبوح القلب بأسرارهم الثقيلة علي رغم إنصاتي لأرواحهم.

كلما صادفت مرآة.. مررتُ أناملي على وجهي باحثة عن الشيءِ الذي يدفعهم إلى البوح بأسرارهم لي. ولا زلت أذكرُّ ردَّ ابنة خالي وأنا أسألها " لماذا تبوحون لي بأسراركم ؟! " .. فقالت: "ملامحك وإنصاتك..!!" مما دفعني إلى الابتسام والتفكير في ملامح أبي الذي أشبهه كثيرا حتى سمَّاني البعض باسمه مَتبُوعا بـ " الصغير".أخذتُ من والدي صفات كثيرة صمته المخيف حينما يغضب.. صراحته الجارحة.. حب الجلوس في المنزل .. كره الأماكن المزدحمة ..عناده  ,وإتقان التقاط الصور العائلية.

حاولت أن أكتب لكم عن أبي.. الرجل المكافح.. الصامد في وجه الدنيا .. رغم قسوتها, وطفولته المسلوبة.هو الرجل الوحيد الذي لن أكتب عنه كما يستحق .. ولن أنجح مهما حاولت في رسمه بكلماتي, أو تخليده بحروفي. وهو ذاته الذي أفخرُّ به أبدا وأمنحه عمري الباقي كي أغادر قبله فدنياي " هو " ووجوده أمان يُحيط بأرواحنا الصغيرة في نظره, هو أستاذي الذي علَّمني معنى العِزَّة في زمن الذُّلِ والهوان, والمستعدُّ كي يمنحنا دمعه جهاراً إذا خاف علينا من الدنيا.

صراحتي المأخوذة منه رمَّتني في مواقف لا أُحسدًّ عليها ,و أغضبت أمي أحيان كثيرة ,واحتاجتها أختي الكبرى حين جاءتني باكية متحطمة,ورغم كل ذاك ما زلت أرفعها بفخر أمام الجميع .,, متناسية محاضرات أمي التي تحمدُّ الله في سِرِّها أنه منحنا شخصية أبي في زمن يُؤكلُّ فيه الضعيف.

صغيرة أنا في نظر أبي, رغم امتلاكي عشرين عاما..وأفكاري المُتمرِّدة أحيانا. قبل ثلاثة أسابيع أعطيت والدي قصتي الأولى التي قرأها بذهول ,وهو متعجب مما دفعني إلى مشاكسته بسؤالي " ألا تُصدِّقُ أنني كاتبتها ؟! " .. فعالمي, وقلمي حكاية ما زالت صغيرة لن أنشرُّها, وأنا في نظره فتاة مغامرة .. صريحة .. صغيرة. قد جاءني والدي ذات مساء سائلا إياي عن مدونتي التي سًمِّع بأنني أملُّكها فأعطيته عنوانها وما أظنه زارها يوما ..وشرَّفت أمي عالمي بزيارتها مرات عِدَّة تحاشت فيها المرور على خواطري المكتوبة عن خالي.. الذي تصرُّ ذكرى الأربعاء على اجتياحنا كلما اجتمعنا حول جدتي.

جدتي التي تخبئ كيس حلوى الحليب في الخزانة وتُذكرنا كلما وزعت منه علينا " لقد أحضرها المرحوم قبل وفاته بأيام " دون أن تُدرك أنها بقولِّها هذا تُصير الحلوى السكرية حنظلا. يجذبني إلى جدتي حبها لنا, أمرها إيانا بتدليك قدميها المتورمتين, طلبها للعلبة البرتقالية بعد العشاء والأدوية فيها موزعة على سبعة أيام, مدِّها لهاتفها النقال كي نساعدها في الاتصال بأحدهم ,خروجها من المنزل أحيانا ,فينشغل الجميع بالبحث عنها ,حضورها إلى منزلنا وانزعاجها الدائم من أكوام الألعاب المرميّة على الأرض, والعباءات التي نرفض خلعها عند زيارتنا لها ,سماعها للطميّات الشيعة رغم الحزن الذي يشعله صوتهم في أعماقها فتبكي ,جدتي التي تصُّر الزهراء على الذهاب إليها ,وعند اللقاء تبتعد ,وكأنها تراهم للمرة الأولى .

لم استطع حتى اليوم فهم تصرفات الأطفال, وإحساسهم بالغربة في التجمع العائلي الأسبوعي ذاك الإحساس الذي يموت بعد دقائق لا تكاد تُلحظ. بُثيْنة ,والزهراء ,وميثاء وُلدنَّ في العام نفسه. يُشكلِّن ثلاثيا يتميز كل فردِّ فيه بشخصيته المضحكة كثيرا. فبثينة الرقيقة أبدا .. الضاحكة بهدوء يُجبرك على تأملها .. هادئة مبتسمة تمنحكَّ شرف سماع صوتها بعد ساعات من اللقاء. الزهراء أختي ذات العامين والشهور الخمسة حريصة على سؤالي فور الوصول من الجامعة عن الحلوى المخبأة في حقيبتي, والتي تستيقظ باكية منتصف الليل سائلة عن بطتها الصفراء الناعمة لتحتضنها فتنام. أدركت الزهراء معنى كلمة " Hug  " منذ صغرها ,وتمنحك إياه فور طلبك دافئا سُكَّريا ينثر عليك الفرح ,ورغم ذلك تمنعه عن أختي الكبرى ,وتسير متجاهلة نداءها. وآخرهنَّ ميثاء التي تقف أمامك تتأمل ملامحك ثم تمضي بلا كلمة أو حرف ,وتسيرُّ بيننا مرددة " happy birthday to you  " بانجليزية مضحكة ,ميثاء الوحيدة بين أخويّن عنيفة بعض الشيء ,تمارس كل طقوس الطفولة بعنف ,ورغم ذلك قريبة من القلب.

.

.

 

و حفظكم الرحمن الرحيم

 

 

 

أنين الورد