” أما نحن فلا غربة لنا “

tumblr_mt4b4pepIr1qzi9p6o3_r1_500

ليس من السهل الجلوس مع الذات وتأمل حياتك كـ شخص غريب يقرأ فصولها ليكتب عنها  ..الآن وأنا في ال26 من العمر أزيح قلبي الفارغ جانبا، وأرسم سُلما كي أزيل الضباب عن مستقبلي .. حصلت على الماجستير في يوم ماطر بغزارة .. كنت بمفردي في الطريق البحري أغرق تأملا في شكل استقبالي الفرح القادم .. أوقفت السيارة، صارعت المظلة، احتضنت حاسوبي ودخلت القاعة بعباءة مبتلة ولهفة للانتهاء من كل شيء يتعلق بالبحث المرهق والدراسة الممتدة وانتظار تكرم الأساتذة بدقائق من أوقاتهم .. قدمت عرضا مختصرا، وتلقيت من ممتحنيّ ثناء أزاح عن روحي كل التعب الذي واجهته في العامين والنصف الماضيين .. وبعد اجتماع سريع بينهم دخلت لأسمع العبارة التي انتظرتها طويلا ..

لم أشعر بالرغبة في البكاء فرحا كالتي تحدثوا عنها أو الصراخ أو القفز على السلم .. كنت أرجو لحظتها العودة سريعا للمنزل وحشر جسدي في السرير، وتجاهل العالم بالغوص في كتاب .. رغم أني أرسلت رسالة نصية لأمي وأختيّ، ومكالمة سريعة مع والدي إلا أن هيئتي عند دخولي المنزل دفعت والداي لاستجوابي خوفا من أن يكون خبر نجاحي مزحة مثلما تعودت بعد كل اختبار وظيفة لا أتجاوزه .. فهمت أمي حزني حين قرأت الإهداء في رسالة الماجستير فـ لم تناقشني، ولم تحدثني، واكتفى أبي باسدال جفنه أسفا .. في أمسية انهرت فيها دون مقدمات أمام أختي قلت لها: ” سأهدي رسالتي إلى خالي” كنت أشعر بوجوده فيني، وفي الليالي الثقيلة كنت أضغط على نفسي، وأكافح النعاس والتعب والارهاق البدني والنفسي في سبيل إنجاز عمل يكون جديرا بأن أهديه له .. توفي خالي في الفصل الدراسي الأول من دراستي كانت واحدة من أصعب مراحل حياتي التي أرجو أن لا يمر بها أحد .. حصلت على الدرجة العلمية بعد أسبوعين من وفاة عمتي بالمرض ذاته .. الموت الذي نبهني إلى ضآلتي، وأكد لي أن وقوفي على أبواب الأحبة لن يمنعه من الدخول .. علمتني وفاة عمتي الكثير مثلما علمتني هي في حياتها .. تلك المرأة الصابرة التي كان السرطان يقضمها ولا تشكو أرتني الصبر ومعنى “إذا أحب الله عبدا ابتلاه” .. بعد كل الأحداث التي عشتها في العامين الماضيين أصبحت أخاف من الفرح، وأشعر أن مقابل كل فرح يدخل بيوتنا سيداهمنا الحزن .. لذلك خفتت أفراحي، وهدأت ضحكاتي .. في حديث جميل مع صديقة عزيزة قلت: “نظرتي للموت تغيرت .. ما صار يوجعني ” تبهت الحياة بعدهم لكنها لا تتوقف، تأتي الأفراح ناقصة ولكنها حلوة ونعيش لأن الدنيا هكذا والأيام  تتابع ..

أقسم ساعاتي بين وظيفة نهارية، وروايات أخبئها في حقيبتي، وأفلام تعطي عقلي بعض الراحة .. أنتقل من كتاب إلى آخر، وألاحق أحدث الأفلام، وأبني عالما جديدا صغيرا يخصني أنا فقط .. أعيش فيه كما أريد، وأشتهي .. أنشئ ملفات موسيقية في حاسوبي ترتبط بمزاجي المتقلب .. أقضي الليل في تصفح اليوتيوب بحثا عن الأصوات الجميلة، والكلمات التي تهطل كالمطر على كتفيك العاريين .. تتسارع نبضاتي كلما وجدت صوتا يشبهني فأستمع إليه مرارا حتى يتسلل إلي الملل ..

أقرأ كثيرا منذ بداية العام .. كتاب في خمسة أيام وأحيانا أقل .. أغرق في الصفحات والأغلفة وأحلق بعيدا عن هذا الواقع المشوه .. بعيدا عن مسقط التي تبدو كفتاة فاشلة في وضع مساحيق التجميل / المثقلة بالبشر .. المدينة التي أحب تشوهت ملامحها فـ كبرت في قلبي الرغبة بـ الابتعاد .. قرأت ذات مسـاء ” خلقت الغربة لمن يملك وطنا أما نحن فلا غربة لنا “وآمنت بها .. لم أجرب سفرا طويلا لكني أعرف أني قادرة على الرحيل، ورؤية وجهي في أعين الغرباء ..أنا كائن يتقن الانسحاب من حيوات من حوله .. دون تخطيط مسبق أجدني بعيدة عن الأهل/الصديقات ولا استطيع تحديد أيني .. لا أحد أشاركه التفاصيل وأحداث يومي الخفيفة والتعليقات التي أبرع فيها .. صديقتي التي ما زالت تقف عند هاتفها على أمل ردي عليها لا تدرك أن هاتفي بجواري، وأني أتامل اسمها المضيء على شاشتي لكني عاجزة عن الرد ليس كسلا ولا تكبرا وإنما لا استطيع البوح..

روحي هادئة .. يغلفها السكون .. سعيدة لأني حققت شيئا، وأطمح لتحقيق الكثير .. أفكر في تعلم أشياء جديدة، تذوق أصناف من الفواكه لم أتذوقها، الطبخ، الخياطة، الاهتمام بالكتابة، وتحسين علاقتي بالبشر .. أتمنى حضور أحد عروض الأوبرا، وأن أتفاجأ برواية جديدة بقلم عبده خال .. ما دمت أملك وقتا لكوب الشاي الأحمر وقراءة رواية والتحديق في صور تمبلر والحلم بالسفر سـ أبقى بخير ~

 الحياة أيام يا أصدقاء .. ف ـلا تنتظروا الوقت المناسب للابتسام ..

نشرت في غير مصنّف

11 رأي حول “” أما نحن فلا غربة لنا “

  1. منذ سنوات لم أجد قلما يشبهني روحاً الى حد الشعور بالانتماء///….وكأنها روحي التي فقد منذ سنوات !!
    لروحك التي نبضت هنا ألف تحية وسلام // قد جددتني من حيث لم أشعر

    ومبروك التخرج:)

    صديقة عابره
    الاء،

  2. سارة حبيبتي وحششششششتيني … طمنيني عنك و عن اخبارك .. موفقه يارب حبيبتي ..

  3. أنتِ عجيبة ومدهشة وجميلة جدًا يا سارة

    بين فينة وأخرى ألج هنا لعليّ أرى جديدًا, فرحت بهذا النص رغم الحزن

    هنيئًا لك هذا القدرة الجميلة والمختلفة والمؤثرة في الكتابة

  4. كتاباتك رائعه .. أنيقة..بين حروفها ألم تملأ فراغاتها،، هنيئا لك على هذه الموهبة الرائعة

أضف تعليق